امتدادات استشراف المستقبل
لقد تراوحت تسميات " استشراف المستقبل" بين "الدراسات المستقبلية"، " التخطيط الاستراتيجي" و" علم المستقبل" وغيرها من المصطلحات التي تشير في مجملها إلى ذلك المجال الذي يتجاوز التفكير الحتمي بحثا عن بدائل لمستقبل ظاهرة ما. غير أن تعدد هذه التسميات خلق نوع من السيول النظرية متعلقة بالجدل بين مختلف المفكرين والباحثين حول ما إذا كان هذا المجال علماً منضبطاً أو فناً.
معضلة الماضي والحاضر وتحدي المستقبل
إن التفكير في المستقبل هو ظاهرة إنسانية تمتد جذورها التاريخية إلى ما قبل اختراع الكتابة والتدوين، فإدراك البعد الزمني لهذه الظاهرة هو الأساس لاستيعاب الحقل المعرفي للدراسات المستقبلية، فالزمن في مجمله يحتكم لمثل ظرفي يتمثل في الحاضر والماضي والمستقبل. كما أن ارتباط الزمن بكم وقائعه أفضى إلى بروز دورة اتجاهية متجددة، فالماضي يفضي إلى الحاضر والحاضر يتحول إلى المستقبل والمستقبل يعود ليصبح حاضرا ومن ثم ماضيا وهكذا تواصل هذه السلسلة في سيرورتها. ويعتبر المستقبل أهم أبعاد المثلث الظرفي لسيرورة الزمان دون أن يلغي ذلك أهمية الماضي والحاضر، لأن المستقبل لا يمكن فصله عن الإدراك الإنساني لحقائق الماضي ومعطيات الحاضر، إذ أنه من الممكن أن يتدخل الإنسان بإدراك في تشكيل تصورات المستقبل وهو في الحاضر إلا أن يعجز عن تغيير حقائق الماضي لأنه مضى ولن يعود.
وقد توجه العديد من المفكرين والمنظرين خاصة العرب منهم إلى تداول مصطلح "المستقبل" كغيرها من المصطلحات الشائعة والمتداولة والمجردة من أي توجهات علمية، وذلك بجعل المستقبل آخر محطة وامتداد تلقائي في سلسلة المثلث الظرفي للزمن، فهذا التفكير يُعد غير مكتمل لأن المستقبل هو مستلزم وجودي لأن تصور ما سيكون عليه المستقبل يتطلب مجهودات إنسانية وإبداعية؛ فالإنسان هو المستقبل بوجوده وإدراكه وتصوره وزمانه وإبداعاته [01][1].
ملاحظة :
فقد أكد المستقبلي الأمريكي Peter Bishop على أهمية دور الخيار الإنساني في بناء المستقبل إذ قال: « أن هذا يعد أحد الأسباب التي تجعلنا ندرك أن المستقبل لا يقبل التنبؤ »
[1]. فإنسان اليوم هو مستقبل من كان قبله وسيكون الماضي القريب و/ أو البعيد لمن سيكون بعده.
أساسي :
كما أن التفكير الخاطئ بإدراك المستقبل على أنه الامتداد اللانهائي للزمن الآتي ساهم في خلق حاجة ملحة لتبني أزمنة متعددة يتباين بعضها عن البعض الآخر من حيث امتدادها الزماني، وهو ما يتضح من خلال ما قدمه عالم الحاسوب Earl Joseph الذي يعتبر من مؤسسي جمعية المستقبل العالمي مينسوتاMinnesota World Future Society، والذي يرى بأن هناك فترات زمنية مختلفة لدراسة المستقبل وحددت كالتالي: [02][2]
المستقبل المباشر: ويمتد لمدة سنة واحدة من الآن، ومن أهم خصائصه:
- يفرضه الماضي؛ - لا يمكن السيطرة عليه؛ - القرارات والأفعال في الحاضر لها تأثير ضعيف أو لا تؤثر إطلاقا على هذا الإطار الزمني؛ - خيارات وبدائل بسيطة متاحة ( كماذا نأكل؟ ماذا نلبس؟ أين نقضي العطلة؛......).
المستقبل القريب: ويمتد من سنة إلى خمس سنوات، ومن أهم خصائصه:
- الماضي يتحكم في المستقبل؛ - إمكانية التغيير في ظل الأزمات؛ - يمكن السيطرة عليه جزئيا ابتداءا من الحاضر؛ - يمكن أن تؤدي القرارات المتخذة في الحاضر إلى إحداث تحولات جذرية في هذا الإطار الزمني ما يتطلب الاعتماد على برامج وأنظمة وسياسات جديدة وفعالة لإحداث التأثير المرغوب.
المستقبل المتوسط: ويمتد من خمس إلى عشرين سنة، ومن أهم خصائصه:
- يمكن لقرارات الحاضر أن تعزز هذا الإطار الزمني للمستقبل؛ - تقريبا أي شيء يمكن تصوره يصبح ممكن تحقيقه في هذا الإطار الزمني؛ - إمكانية الاختيار من البدائل المتاحة للمستقبل إذا كان هناك وعي بهذه البدائل في الحاضر؛ - يمكن إحداث التغيير الجدري الكامل في هذا الإطار الزمني إنطلاقا من التغييرات الصغيرة والبسيطة المعتمدة في الحاضر.
المستقبل البعيد: ويمتد من عشرين إلى خمسين سنة، ومن أهم خصائصه:
- إمكانية جعل العديد من الفرص والبدائل متاحة؛ - بلوغ الفرص و/أو الأزمات التي تم تأسيسها و/أو إطلاقها في الحاضر.
المستقبل غير المنظور: ويمتد إلى أكثر من خمسين سنة ( يتجاوز مداه نصف القرن أو أكثر) ، ومن أهم خصائصه:
- غير واضح إلى حد كبير (من الحاضر)؛ - مستقبل لا يمكن السيطرة عليه من الحاضر؛ - إمكانية وضع العديد من التصورات.
مفهوم استشراف المستقبل
إن القيام باستقراء واستشراف المستقبل يعد من بين أهم العلوم الاستراتيجية في الدول والمؤسسات الكبرى تتبنى خطط مستقبلية وتحينها بناء على قراءة أحوال المجتمعات بشكل مستمر ومنتظم، إذ تعتبر دراسات استشراف المستقبل علم قائم بحد ذاته مبني على الإحاطة بتجارب الماضي والاستفادة من والوقوف على أحداث الحاضر وإدراكها، كما أن التنبؤ بالمستقبل والتخطيط له وفق أسس علمية واضحة تقود إلى رسم طريق النجاح في استشراف رؤية واضحة للمستقبل.
كما أن الاستشراف لا يعد تنجيما ولا إطلاعا عن الغيب، ولا يمكن من خلال استخدام مختلف أدوات هذا العلم معرفة ما سيكون عليه المستقبل بشكل قطعي، بل سيمكننا ذلك فقط من وضع احتمالات وتصورات وسيناريوهات قد تحدث بنسب متفاوتة والعمل على الاستعداد الأمثل لكل تطور وسيناريو. وفيما يلي أهم التعاريف التي تناولت استشراف المستقبل: [3]
تعريف :
عرف أحمد زكي بدوي استشراف المستقبل على أنه: «العلم الخاص بعملية التنبؤ بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية وغيرها والمتوقع حدوثها في المستقبل القريب. ويستند في دراسة علم الاستشراف على الاستقراء والاستنباط وجمع الوقائع واستخلاص المبادئ العامة التي تحكمها والخروج بعد ذلك بالتصورات والسيناريوهات التي ستكون عليها المجتمعات مستقبلا. »
كما نجد فاروق عبده الذي عرف دراسات استشراف المستقبل على أنها: «مجموعة من البحوث والدراسات التي تهدف إلى الكشف عن المشكلات ذات الطبيعة المستقبلية، والعمل على إيجاد حلول عملية لها من خلال تحديد اتجاهات الأحداث وتحليل المتغيرات المتعددة والتي يمكن أن يكون لها تأثير على مسار الأحداث في المستقبل. »
أيضا فقد عرف الاتحاد الأوروبي استشراف المستقبل بأنه: «عملية منهجية تشاركية تقوم علة جمع المعلومات المستقبلية ووضع رؤى متوسطة وطويلة الأجل تهدف إلى إتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ في الوقت الحاضر بغية بلوغ أفضل للمستقبل. »
والاستشراف يُنظر إليه على أنه: " علم تشكيل المستقبل، ومهارة علمية تتضمن تصور نهج استباقي اعتمادا على سيناريوهات يمكن تحويلها إلى واقع ملموس يرتقي بعمل الحكومات والدول على أسس ومعايير مبتكرة." [03][3]
وقد عُرفت الدراسات المستقبلية حسب مجلة “World Future Society” بأنها: "دراسات تستهدف تحديد وتحليل وتقويم كل التطورات المستقبلية في حياة البشر في العالم أجمع بطريقة عقلانية موضوعية...وإن كانت تفسح مجالا للخلق والإبداع الإنساني وللتجارب العلمية ما دامت هذه الأنشطة تساهم في تحقيق هذه الأهداف" [04][4].
كما يعرف استشراف المستقبل من قبل بعض المنظرين على أنه:" اجتهاد علمي منظم يهدف إلى صياغة جملة من التنبؤات المشروطة التي تشمل المعالم الرئيسية لمجتمع ما لعشرين سنة فأكثر، والسعي لاكتشاف العلاقات المستقبلية المحتملة بين مختلف النظم الكلية والفرعية في عالم سريع التغير والتطور."
إضافة :
وفد قال Ross Dawson رئيس مجلس إدارة إستكشاف المستقبل-Future Exploration Network : «حتى ولو أننا نعجز عن إدراك المستقبل، فإنه يمكن التفكير به بطريقة ممنهجة؛ والتمعن في الإتجاهات والشكوك، واستخدام مجموعة واسعة ومطورة من المنهجيات للحصول على التصورات والسيناريوهات المناسبة لبلوغ المستقبل المرغوب. »
[05][5]
أساسي :
وخلاصة القول أن الاستشراف هو: "جهد عملي فكري متعمق مبني على أساليب كمية تعتمد على قراءة الأرقام الحاضرة أو الماضية و/أو أساليب نوعية تستنتج أدلتها من الآراء الشخصية القارئة لمجرى الأحداث، وذلك بغية رصد التغير الحاصل في مختلف الظواهر والأحداث والسعي لتحديد مختلف التصورات والاحتمالات والسيناريوهات التي ستنجم عن تطورها مستقبلا وتتفاوت من حيث درجة إمكانية وقوعها وتساهم في تحقق الأهداف المرغوبة مستقبلا مع الأخذ بعين الاعتبار لمختلف التدابير الواجب اتخاذها لتصحيح الانحرافات من فشل ومخاطر إذا حدثت". فالمستقبل يبقى مجهولاً إلى أن نعيش أحداثه شيء فشيء وما علينا فقط إلا التعلم من أحداث الماضي وإدراك واقعنا الحاضر الذي نعيشه والاستعداد لمواجهة ذلك المستقبل المجهول."
التمييز بين الاستشراف وبعض المصطلحات
إن المتتبع لمصطلح "الاستشراف" يمكن أن يقف على وجود خلط بينه وبين العديد من المصطلحات المتداولة والتي يمكن تبيين أبرزها ضمن الجدول التالي:
المصطلح | التعريف |
---|---|
الاستشراف (Foresight) | هو إحتهاد فكري وعلمي منظم يهدف إلى صياغة جملة من التنبؤات المشروطة التي تشمل المعالم الأساسية لأوضاع مجتمع ما عبر مدة زمنية معينة والتركيز على المتغيرات التي يمكن تغييرها من خلا إتخاذ القرارات، بمعنى أنه واسع ليتعدى التنبؤ. |
التنبؤ (Forecasting) | هو تخطيط للمستقبل مع إعتبار أن نتائج الماضي هي مؤشر موثوق للنتائج المستقبلية، فهو مثل التشاؤم حتمي وثابت. |
الاستراتيجية (Strategy) | هي مجموعة من الإجراءات التي يتم إتخاذها قصد بلوغ أهداف معينة. |
الخطة (Plan) | هي التوجهات اللازمة من أجل بلوغ الأهداف الإستراتيجية المرغوبة وفق أسس وقيم معينة. |
التخطيط الإستراتيجي (Strategic Planning) | يكون بعيد المدى ومتجدد آخذا في عين الإعتبار المتغيرات الداخلية والخارجية المحيطة بالمؤسسة ويتم تنسيق أهدافها تبعا لهذه المتغيرات. |
التسيير الإستراتيجي (Strategic Management) | هو التخطيط المستمر والمراقبة والتحليل والتقييم لجميع الضروريات التي تحتاجها المؤسسة لتحقيق أهدافها وغاياتها، خاصة ضمن عالم سريع التغير والتطور ما يتطلب من المؤسسات تقييم استراتيجياتها باستمرار لتحقيق النجاح. |
الاستشراف الاستراتيجي (Strategic Foresight) | بالرغم من التناسق بين الاستشراف والاستراتيجية، إلا أن الاختلاف يكمن في مواضع تطبيق كل منهما من حيث الإستباق, فالاستشراف يساعد على توقع الاتجاهات المستقبلية وتطوير السيناريوهات التي تستكشف مختلف العقود المستقبلية المحتملة للمؤسسة: ماذا يمكن أن يحدث؟، أما الإستراتيجية فيتم من خلالها تطوير خطة طويلة المدى للمؤسسة ويعتمد على مختلف السيناريوهات الناجمة عن الاستشراف لبلوغ الأهداف المرجوة : ماذا أستطيع أن أفعل؟, وعليه يبرز الاستشراف الاستراتيجي من طرح التساؤلات التالية : من منا لم يتفاجأ بحدث غير متوقع؟ هل اضطررنا في يوم من الأيام إلى إعادة التفكير في خططنا بسبب شيء لم نكن مستعدين له؟ هل اكتشفنا أن الطريقة المعتادة لحل المشكلة لم تعد تعمل؟ والأهم من نحن؟ |