العولمة وتحديات الاقتصاد الدولي

يعتبر الاقتصاد الدولي الجسر الذي يتم من خلاله الترابط بين اقتصادات مختلف الدول، وتتخذ هذه الترابطات شكل تدفقات دولية للسلع والخدمات والهجرات والاستثمارات المباشرة في الخارج وغيرها من أشكال التعاون هذه الأخيرة التي ارتبطت ارتبطت ارتباطا وثيقا بطبيعة السياسات الاقتصادية الخاصة بها، وهو ما أدى مع مرور الوقت إلى بروز العولمة التي تعتمد على فكرة تزايد التفاعل بشكل ملحوظ بين السكان في مختلف الدول والمناطق أو القارات في مختلف المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والبيئية....وغيرها وبشكل خاص المجال الاقتصادي ( خاصة التجارة الدولية) الذي يلعب دوراً قياديا في هذه العملية.

ظهور العولمة وتطورها

مما لا شك فيه أن عولمة الاقتصادات قد شكلت إحدى التطورات الرئيسية لنهاية القرن العشرين بحث دخلت معظم الدول مع استثناءات ناذرة القرن 21 بنظم اقتصادية مختلفة تماما من حيث إمكاناتها عما كانت عليه قبل 20 أو 30 سنة، لتصبح اقتصادات معولمة غير قادرة على الرجوع إلى أنظمتها الاقتصادية القديمة.

كما أن اقتصادات العولمة في شكلها العام تحددت من خلال تكامل الاقتصادات على مختلف المستويات ( تكامل تجاري مع الانفتاح على أسواق السلع والخدمات، التكامل مالي مع إلغاء القيود التنظيمية ونزع الوساطة لضمان حرية انتقال رؤوس الأموال والتحرير المالي، وأخيرا التكامل الإنتاجي مع الشركات المتعددة الجنسيات).وقبل تبلور عولمة الاقتصادات فإن العولمة بشكلها العام لم تأتي دفعة واحدة للعالم بل مرت على ثلاث محطات رئيسية يمكن ذكرها بشكل مختصر فيما يلي: [1]

المرحلة01: المرحلة التمهيدية للعولمة

تُعرف بالمرحلة "التمهيدية للعولمة" وامتدت بين القرنين 15 و16 ومن وجهة نظر بعض المؤرخين فإن قيام البشر بهجراتهم الأولى على نطاق واسع بين القارات وتطويرهم لمختلف العلاقات التجارية والثقافية للعالم القديم قد شكلت هي وغيرها من المظاهر بدايات العولمة الحالية، ومع ذلك في هذه المرحلة ليس من الواضح ما إذا كانت عولمة الاقتصادات سائدة بالمعنى الذي يفهمه الاقتصاديون في الوقت الحالي بسبب أن العديد من الجوانب البارزة لعولمة الاقتصادات مفقودة، والتي من أهمها تطور التجارة الدولية زيادة تدفقات رؤوس الأموال والهجرة والتصنيع وخاصة تقارب( تباين) مستويات التنمية بين الدول أو القارات. ومن أهم الأحداث التي تضمنتها هذه المرحلة نجد: عبور البحارة البرتغاليين خط الاستواء لأول مرة سنة 1475؛ اكتشاف Christopher Columbus لقارة أمريكا سنة 1492 و فتح de Gama Vasco للطريق نحو الهند سنة 1498 وغيرها من الأحداث. وعلى الرغم من أنه ليس من السهل تحديد تاريخ دقيق لنشوء العولمة غير إلا أن تاريخ الحقائق الاقتصادية يُظهر أن عولمة الاقتصادات كانت لا محالة مصاحبة للاكتشافات العظيمة، وهو ما يجعل الفترة الأولى من بدايات ظهور العولمة لا يُعتد بها من قبل الاقتصاديين المهتمين بمختلف قضايا الاقتصاد الدولي.

المرحلة02: المرحلة الأولى للعولمة

تُعرف بالمرحلة "الأولى للعولمة" وامتدت من 1850 إلى 1914، حيث أقر مختلف الباحثين في الاقتصاد الدولي على غرار Martin وBaldwin أن هذه المرحلة تعد الموجة الأولى من العولمة الاقتصادية فخلال هذه الفترة زادت التجارة العالمية بشكل كبير بسبب التحسينات التقنية التي أدت إلى إنخفاض أسعار المنتجات المصنعة، أيضا تطور وسائل النقل مما أدى إلى خفض تكلفة السلع التجارية.

وهكذا يمكن اعتبار هذه المرحلة الأولى من العولمة بمثابة نتائج مختلف التغيرات التي حدثت خلال الثورة الصناعية، هذه الأخيرة التي ظهرت أولى بوادرها في النصف الثاني من القرن 18 (1870) في انجلترا والتي تميزت بتغييرات فنية وتنظيمية واجتماعية ومؤسسية وتحولات جذرية مست ثلاث قطاعات بعمق: المنسوجات والمعادن والنقل وغيرها من المظاهر. وعليه فهذه الفترة في مجملها أدت إلى زيادة التجارة بشكل ساهم في إزدهار التدفقات المالية الدولية مستفيدة من استقرار أسعار الصرف، حيث في الفترة ما بين 1870 و1913 وصلت تدفقات رأس المال إلى مستويات عالية في معظم الدول الأوروبية وأنه في الفترة ما بين 1825 و 1913 تجاوز الاستثمار الدولي معدل نمو التجارة، غير أن هذا التكامل المالي بقي حكرا على الدول المتقدمة هذه الأخيرة الغنية بالموارد الطبيعية وقوى العمل المدربة والمؤهلة ما يمكنها من تحقيق أهدافها مقارنة بالدول النامية. [26][1]

المرحلة03: المرحلة الثانية للعولمة

آخر مرحلة من العولمة سميت "بالعولمة الثانية" وامتدت من سنة 1960 وبرزت بشكل أكبر في الثمانينات بعد ما انتهت المرحلة الأولى من العولمة باندلاع الحرب العالمية الأولى والذي أدى إلى تباطؤ حاد في التجارة الدولية، وفي أعقاب هذا الصراع العالمي أدت أزمة الكساد الكبير سنة 1929 إلى تفاقم انخفاض وتراجع في التجارة.

والحقيقة أن الدول ولتتمكن من حماية نفسها من العواقب المترتبة على الأزمة الاقتصادية تبنت العديد من السياسات الحمائية، وبالنسبة لأي دولة فإن هذه الاستراتيجية العقلانية تأخذ شكل زيادة الرسوم الجمركية أو اعتماد الحصص من أجل الحد من الواردات وتحفيز الانتعاش الاقتصادي داخليا، ومع ذلك فإن مثل هذه السياسات الحمائية تؤدي إلى خلق نوع من التوتر مع الشركاء التجاريين لهذه الدولة الذين يفرضون هم بدورهم رسوما جمركية أعلى رداً على ذلك.

ومع هذا الأخذ والرد من تطبيق السياسات الحمائية والسياسات الحمائية المضادة أدى ذلك إلى انخفاض حاد في التجارة على المستوى العالمي، لتأتي الحرب العالمية الثانية سنة 1939 التي فتحت المجال أمام التوسع مجددا في التجارة العالمية بشكل كبير نتيجة لتسارع انخفاض تكاليف المعاملات الناتج عن التقدم التكنولوجي مثل تطور الطيران المدني التجاري وتحسين البحرية التجارية وغيرها. وقد ساهمت هذه الموجة من العولمة في إنشاء منظمات دولية لخلق تكامل بين مختلف الاقتصادات وتحسين التناسق بين السياسات التجارية على غرار إنشاء الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية GATT[2] ودخولها حيز التنفيذ في 01 جانفي 1948، ليتم بعدها إنشاء المنظمة العالمية للتجارة (WTO)[3] سنة 1994، ما سرع من تدفقات التجارة الدولية لتزداد بشكل كبير إذ ووفقا لتقرير منظمة التجارة العالمية ارتفعت قيمة الصادرات السلعية العالمية من 2030 مليار دولار سنة 1980 إلى حوالي 19002 مليار دولار سنة 2014 بمعدل نمو سنوي متوسط قدره 6.8%، ومن أهم العوامل التي ساهمت في هذا التوسع نجد الانخفاض الحاد في الحواجز التجارية كتكاليف النقل والرسوم التجارية والجمركية وتكاليف المعاملات( تكاليف تنفيذ العقود والاجراءات الادارية) وغيرها من العوامل التي سهلت من توسيع دائرة التبادل بين مختلف الاقتصادات.

ومع مختلف مراحل العولمة خاصة المرحلة الثانية التي كانت متسارعة بشكل كبير، وبالرغم من مختلف الايجابيات التي خلقتها من تحسين التجارة الدولية ومختلف التكاملات بين الدول، إلا أنها خلقت ما يعرف بالتحديات (Challenges) إذ وفي أوقات التغير السريع والتعقيد المتزايد وحالة عدم اليقين كل ذلك يتطلب التحلي بالمسؤولية للاستعداد لما هو غير متوقع، فمع مختلف التطورات التي شهدها العالم على مختلف الأصعدة اقتصادية وسياسية وبيئية؛..... ساهم كل هذا في بروز تحديات تؤرق العالم ككل كمشاكل المناخ ونضوب الثروات الطبيعية والتقدم التقني وتبني أنظمة غذائية مستدامة وغيرها من الظواهر التي تستوجب من الدول تبني الاستشراف الاستراتيجي بغية مواجهة هذه التحديات والمحافظة على نسق العلاقات الدولية. [27][4]

التكامل بين الاستشراف الاستراتيجي والاقتصاد الدولي

تواجه الدول والحكومات اليوم بفعل ما خلفته العولمة ضغوطا متعددة في الوقت الحاضر بما في ذلك الاضطرابات الاقتصادية وتزايد التوترات الدولية وبروز ما يعرف بالاستقطاب والصراعات بين كبريات دول العالم. ومع تراجع الثقة وشيخوخة السكان وغيرها من التحديات التي تجعلنا نفكر أن المستقبل لن يكون أقل تحديا، فالأزمات المرتبطة بالمناخ والموارد الطبيعية والتحول الرقمي السريع للاقتصادات والمجتمعات والأشكال الحديثة من الاضطرابات الاقتصادية في الداخل والخارج من الممكن أن تصنع مستقبلا مختلفا تماما عما هو متوقع عادة.

مكانة الاستشراف الاستراتيجي ضمن الاقتصاد الدولي

أساسي

إن محاولة تصور المستقبل له فائدة محدودة في عالم يتسم بدرجة عالية من عدم اليقين، ومع ذلك فهو ذو قيمة كبيرة وينفع مستقبل الدول والاقتصادات والعلاقات فيما بينها من خلال تحديد السيناريوهات المستقبلية المحتملة المختلفة واستشكاف التأثيرات التي يمكن أن تُحدثها وتحديد الآثار المحتملة على مختلف السياسات.

ومن المهم أيضا أن يُنظر إلى ما هو أبعد من نطاق السياسات التقليدية لتطوير العلاقات ( كتبني سياسات لحماية البيئة والمناخ وتطبيقها في الواقع وتجاوز مجرد كونها حبر على ورق) والنظر في كيفية تقاطع التطورات المتعددة وتفاعلها بطرق غير متوقعة، علاوة على ذلك فقد يحدث التغيير بشكل أبعد وأسرع ( أحيانا يأخذ وقت أطول) مما تم تصميم السياسات وعندما ينمو التغيير بشكل أكبر يجب أن يقابلها نمو قدرة الحكومة على الإستجابة لها بنفس المقدار.

ومع تسارع التغيير والتطور وعدم اليقين يستوجب على المسؤولين صياغة سياسة كلية ودولية تأخذ في عين الاعتبار للاحتمالات المستقبلية المتعددة من خلال ما يوفره الاستشراف من التقنيات اللازمة لذلك [28][5]، ويتعين على كافة الدول أن تبدل المزيد من الجهود من أجل توليد نظرة استباقية أكبر خاصة وأن الطابع الآني لتحديات اليوم تعني في كثير من الأحيان أن الدول تفشل في تخصيص الوقت الكافي للخروج من الحاضر والتعامل مع تصورات وسيناريوهات المستقبل (الدوران في حلقة مفرغة).

ويمكن القول أن المفتاح الأساسي لتمكن الدول من بناء نظرة استشرافية استراتيجية فعالة هو أخذ المستقبل بعين الاعتبار عند صياغة السياسات، غير أن أداء الدول عادة ما يكون ضعيفا التزامها بالاستعداد والاستجابة بفعالية للتطورات غير المتوقعة وغير المسبوقة والدليل أنه حتى العديد من التطورات والتحديات المستقبلية المعروفة كتغير المناخ لا تزال دون معالجة كافية ونتيجة لذلك فإن الاستراتيجيات التي تتبناها الدول غالباً ما تفشل في تحقيق النتائج المرجوة وعلى وجه الخصوص التي تفترض استمرار الاتجاهات الماضية وتفشل في مراعاة التغيرات الأخيرة أو الناشئة وهذه الاستراتيجيات يمكن أن تكون غير فعالة أو غير كافية أو حتى تؤدي إلى نتائج عكسية.

أساليب الاستشراف الاستراتيجي في الاقتصاد الدولي
طريقة

تعتمد الدول في مختلف أنحاء العالم على الاستشراف بشكل عام والاستشراف الاستراتيجي بشكل خاص باعتباره منهج منظم وفق خطط للنظر إلى ما هو أبعد من التوقعات الحالية ومراعاة مجموعة متنوعة من التطورات المستقبلية المعقولة في شكل سيناريوهات، من أجل تحديد الآثار المترتبة على سياسات اليوم وكل هذا يتم من خلال الكشف عن الافتراضات الضمنية وتحدي وجهات النظر السائدة والتفاعل مع الاضطرابات المفاجئة والتي قد يتم تجاهلها ورفضها. ولتحقيق رؤية استشرافية فعالة على المستوى الدولي يتم الاعتماد على مجموعة من الأساليب ونجد من أهمها: [29][6]

  • مسح الأفق (Horizon Scanning): السعي والبحث عن إشارات التغيير في الحاضر وتأثيراتها المستقبلية المحتملة، ويُعد مسح الأفق أساس أي عملية استشراف استراتيجي والذي من الممكن أيضا أن يضم البحث المكتبي واستطلاعات آراء الخبراء ومراجعة الأدبيات الاستشرافية الموجودة؛

  • تحليل الاتجاهات الكبرى(Mega trends analysis) : استكشاف ومراجعة التغييرات واسعة النطاق التي تنشأ في الوقت الحاضر عند تقاطع سياسات مختلف المجالات ( مناخ؛ اقتصاد؛ تكنولوجيا؛ عمالة؛...) مع بروز تأثيرات معقدة ومتعددة الأبعاد في المستقبل؛

  • تخطيط السيناريو ( Scenario Planning): إمكانية تطوير رؤى وتصورات متعددة لكيف يمكن أن يبدو بها المستقبل من أجل استكشافها والتعلم منها من حيث الآثار المترتبة على الحاضر؛

  • الرؤية والتحليل العكسي(Visioning and back casting): تطوير صورة لحالة مستقبلية مثالية ( أو غير مرغوب فيها) والعمل بشكل عكسي لتحديد الخطوات التي يجب اتخاذها ( أو تجنبها).

مساهمة الاستشراف الاستراتيجي في إضفاء قيمة على صنع السياسات الدولية والكلية

أساسي

يمكن أن يدعم الاستشراف الدول في صناعة بناء وترشيد السياسات الداعمة لمختلف المجالات على الصعيد الدولي من خلال ثلاث توجهات أساسية:

  • توقع الأفضل: من خلال تحديد الفرص والتحديات الجديدة التي قد تظهر في المستقبل والاستعداد لها بشكل أسرع؛

  • ابتكار السياسات: تحفيز وتنشيط التفكير الجديد حول أفضل لمعاينة هذه الفرص والتحديات؛

  • التدقيق المستقبلي: وذلك لاختبار الضغط على الاستراتيجيات الدولية الحالية والمقترحة مقابل مجموعة من السيناريوهات المستقبلية.

متطلبات بناء نظرة استشرافية فعالة على المستوى الدولي والعالمي

تعتمد قدرة الدول على القيام بمراحل الاستشراف الاستراتيجي على التفكير المستقبلي( ربط الحاضر والماضي والمستقبل) وقدرة صناع القرار على استخدامه في مواضعه وبشكل دقيق. ولصياغة هذين الأمرين يتطلب من الدول أن تأخذ في الاعتبار عنصرين رئيسيين:

  • الأنظمة: بنية الحوكمة والحوافز التي تدعم ثقافة وممارسة الاستشراف المنتظم والمفيد والمؤثر واستخدامه لاحقا في صنع القرار؛

  • التدخلات: الأنشطة والدراسات والعمليات التي يتم من خلالها النظر في المستقبل ويتم إجراء حوار استراتيجي بغرض تحديد التطورات الناشئة بشكل أفضل أو حماية وتحصين استراتيجية قائمة في المستقبل.

ويتجلى الترابط بين هذين العنصرين من خلال أن النظام في حد ذاته مبني على تكرار التدخلات وفائدتها تتمثل في القدرة على تقديم رؤية دولية استشرافية فعالة وكل هذا ينجم من قدرة النظام على تعزيز واستخدام التدخلات بفعالية.

حدود الاستشراف في الاقتصاد الدولي

تنبيه

لا توجد دولة في العالم لها صيغة تنفذ بها الاستشراف بشكل منهجي وبطريقة مثلى، بل يجب على الحكومات والدول أن تبدأ من مكان ما وهناك العديد من المسارات لإثبات القيمة التي يمكن أن يضيفها الاستشراف مع خلق الحاجة الملحة لاتخاذ الخطوة الموالية بعد الانطلاق في الاستشراف ومن أمثلة ذلك:

  • إنشاء أو تجديد فريق للاستشراف المكلف بتنفيذ بعض الإجراءات كبناء سيناريوهات؛

  • إجراء تدخل استشرافي فعال ومؤثر بشأن مختلف التحديات العالمية التي يشوبها قدر كبير من عدم اليقين والذي تكون عملية تطوير الاستراتيجية الخاصة به على وشك البدء به؛

  • إنتاج أو إصدار تقارير وسلاسل للتعريف بالمواضيع والظواهر تخص التحديات والقضايا الشاملة الدولية التي تتسم بقدر كبير من عدم اليقين تحت إشراف مشترك من مؤسسات استشراف عالمية ومختلف الجهات الفاعلة مع الأخذ بوجهات نظر صانعي السياسات.